قام رئيس الحكومة التونسية السيّد مهدي جمعة بإصدار أمر ترتيبيّ
تحت عــدد 4773 لسنة
2014 مؤرخ في 26 ديسمبر 2014 يتعلق
بضبط شروط وإجراءات إسناد ترخيص نشاط مزود خدمات الأنترنات, علما و أنّ هذا
الأمر وقع نشره بالرائد الرسمي للجمهورية التونسية عدد 7 بتاريخ 23 جانفي 2015 أي
قبل أيام قليلة من تسليم السلطة بين حكومة السيّد المهدي جمعة و الحكومة الجديدة
برئاسة السيّد الحبيب الصّيد.
ما يثير الإستغراب في النّصوص الترتيبيّة المتعلّقة بفرض ضوابط و
رقابة على منظومات الإتصال و المعلومات (بما في ذلك الأنترنات) هي تواريخ نشرها بالرائد الرسمي و التي
تصادف دائما إنشغال الرأي العام بمتابعة أزمات سياسية حادّة في تونس على غرار أزمة
تشكيل الحكومة طيلة شهر جانفي 2015 و التي وافقت تاريخ إشهار الأمر الترتيبيّ عــدد 4773 لسنة
2014 و كذلك على غرار أزمة تعطّل آفاق الحوار الوطني عقب اِغتيال الشهيد محمّد
البراهمي و التّي صدر خلالها الأمر عدد 4506-2013 المتعلّق بإحداث الوكالة الفنيّة للإتصالات.
لئن كان الأمر الترتيبيّ عــدد 4773 لسنة 2014 المؤرخ في 26 ديسمبر2014 يتعلق بضبط شروط وإجراءات إسناد الترخيص لممارسة نشاط مزود خدمات الأنترنات, فإنّه في الحقيقة يتجاوز التطرّق إلى شكليات الحصول على الترخيص و شروطه إلى ما هو أعمق حيث تضمّن جملة من القواعد التي تفصّل حقوق و واجبات مزوّدي النفاذ و خدمات الأنترنات.
من بين جملة الإلتزامات المحمولة على
المزوّدين و مسدي خدمات الأنترنات إستوقفتنا تلك المتعلّقة بواجب الإمتثال لأوامر و
تعليمات السلط الأمنية و العسكريّة و التي من شأنها أن تفرض قيودا على حريات
دستورية من بينها سرّية المراسلات و الإتصالات و حرمة الحياة الخاصّة و المعطيات الشخصيّة.
و في ما يلي تقييم موجز لمدى تلائم الصلاحيات المُخوّلة للسلط
الأمنية و العسكرية مع الدستور التونسي بالنّظر إلى ما وضعه هذا الأمر من واجبات
على كاهل مسدي خدمات الأنترنات و مزوّدي النفاذ إليها.
1) في عيب الإختصاص و خرق
قاعدة التفريق بين السّلط و مبدإ توازي الصيغ و الأشكال
نصّ الدستور التونسي الصادر بتاريخ 26 جانفي 2014 صلب الفصل 24 منه على مايلي : " تحمي الدولة الحياة
الخاصة، وحرمة المسكن، وسرية المراسلات والاتصالات والمعطيات الشخصية ".
إنّ إقرار الحقوق و الحريات في الدستور يبقى أمرا بالغ الأهميّة من الناحيتين الرمزيّة و النّظريّة إلاّ أنّ تكريس تلك الحقوق على أرض الواقع لا يمرّ إلاّ عبرإرساء ضمانات شكلية و جوهرية تمكّن من تقييد السلطتين التنفيذية و
التشريعية بضوابط لحماية تلك الحقوق و الحريات من التقييد و التضييق أثناء
قيام كلّ واحدة من السلطتين المذكورتين بوظيفتها.
و عليه فإنّ فرض قيود أو تضييقات على مدى هذه الحريات يخضع لجملة من الضوابط من بينها ما هو شكليّ كمبدإ توازي الصيغ و الأشكال الذّي يفترض أن لا يقع إقرار القيود على الحريات المنظّمة بقانون أساسي إلاّ بواسطة نصّ قانوني من نفس المرتبة أو أعلى منه درجة و في ذلك تكريس صريح للفصل 65 الفقرة 2 المطّة 10 من الدستور الذّي يفرض وجوبا أن تتّخذ النصوص المتعلّقة بالحقوق و الحريّات شكل قوانين أساسيّة.
إنّ التطرّق لمسألة طبيعة النص القانوني المُؤهّل للتضييق غلى الحقوق و الحريّات يجد له سببا وجيها عند التمعّن في أحكام الفصل 14 من الأمر عــدد 4773 لسنة 2014 والذي ينصّ على ما يلي : " يلتزم مزود الخدمة بــ :
المطّة 4 ـ عدم إفشاء المعطيات
المنقولة أو المخزنة والمتعلقة بالمشتركين وخاصة الاسمية منها إلى الغير دون
موافقة المستعمل المعني بالأمر مع مراعاة مقتضيات الدفاع الوطني والأمن العام
وامتيازات السلطة القضائية والتشريع الجاري به العمل."
يُلاحظ قارئ هذا الفصل و قارئ الفصل 24 من الدستور المشار إليه سلفا أنّه جاء بقيد على الحياة الخاصة وسرية المراسلات والاتصالات والمعطيات الشخصية إذ أنّه, مراعاة لمقتضيات الدفاع الوطني والأمن العام والتشريع الجاري به العمل, أقرّ إستثناءا لمبدإ عدم إفشاء المعطيات المنقولة أو المخزنة والمتعلقة بالمشتركين وخاصة الاسمية منها إلى الغير دون موافقة المعني بالأمر.
و حيث إنّ إقرار هذا القيد صلب الفصل 14 من
الأمر الترتيبي عــدد 4773 لسنة 2014 يشكّل خرقا صريحا لأحكام الفصل 65
من الدستور فقرة 2 المطّة 10 ضرورة أنّ تنظيم الحريات و فرض القيود عليها لا يتمّ
إلاّ بواسطة قانون أساسيّ صادر عن السلطة التشريعية و لا يكون بموجب أمر ترتيبي
صادر عن السلطة التنفيذية كما هو الحال هنا.
و تأسيسا على ذلك يُضحي فرض قيد على حرمة
المعطيات الشخصيّة و بقية الحريات الدستورية المشار إليها صلب الفصل 24 من الدستور
في غير طريقه قانونا و مشوبا بعيب اللادستورية لعدم اِختصاص السلطة التنفيذية في
إقراره و لصدوره في شكل أمر ترتيبيّ عوضا عن قانون أساسي.
2) في خرق الضمانات الدستورية الواردة بالفصل
49 من الدستور
نصّ الفصل 14 من
الأمر عــدد 4773 لسنة 2014 على ما
يلي : " يلتزم مزود الخدمة بــ
:
المطّة 4 ـ عدم إفشاء المعطيات
المنقولة أو المخزنة والمتعلقة بالمشتركين وخاصة الاسمية منها إلى الغير دون
موافقة المستعمل المعني بالأمر مع مراعاة مقتضيات الدفاع الوطني والأمن العام
وامتيازات السلطة القضائية والتشريع الجاري به العمل."
إنّ إقرار حرمة المعطيات الشخصية في طالع هذا الفصل وقع إفراغه من جوهره بإقرار إستثناء ينقلب على المبدإ دون يكون محدّدا في مداه و مضمونه.
لئن كان الإستثناء المُخوّل للسلطة القضائية أمرا بديهيّا قانونا بحكم صلاحيّاتها الدستورية فإنّ فتح باب هتك حرمة المعطيات الشخصية لمراعاة " مقتضيات الدفاع الوطني و الأمن العام و التشريع الجاري به العمل " لا يستقيم من الناحية الدستورية للأسباب التالية :
- إنّ إستثناء إفشاء المعطيات الشخصية الوارد بهذا الفصل لا يأخذ بعين الإعتبار صدور الدستور التونسي في 26 جانفي 2014 و ما جاء به من ضمانات في بابه الثاني المتعلق بالحقوق و الحريات و خاصّة الفصل 49 منه الذّي نصّ على أن " يحدّد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك."
بالرجوع للأمر عــدد 4773 لسنة 2014 يتبيّن أنّه تأسّس على فلسفة
صياغة و تقنين ترجعان لزمن ما قبل إصدار الدستور التونسي سنة 2014 ضرورة أنّ
إستثناء " مقتضيات الدفاع
الوطني و الأمن العام و التشريع الجاري به العمل " ما هو إلاّ تكريس لأحكام الفصل
26 من مجلة الإتصالات و الذي ينصّ على أنّه " يتعيّن على صاحب الإجازة : (المطّة
8) - الإستجابة لمقتضيات الدفاع الوطني و الأمن العام." كما أنّه يكرّس
نفس صيغة الإستثناء الواردة بالفصل 47 من القانون عدد 63 لسنة 2004 و المتعلق بحماية المعطيات الشخصيّة و الذّي ينصّ على إمكانية نفاذ السلط الأمنية و العسكرية
للمعطيات الشخصيّة للأفراد إذا كان ذلك ضروريّا لتنفيذ المهام الموكولة إليها.
و حيث إنّ هذا المنطق القانوني لم يعد يستقيم الآن بالنّظر إلى أحكام الدستور و خاصّة منها الفصلان 24 و 49 إذ أنّ عدم إخضاع السلط الإدارية إلى حدّ أدنى من الرقابة القضائية بمناسبة ممارستها لمهامها لم يعد يتلائم مع روح الدستور و فلسفة الضمانات القضائية التي كرّسها خاصّة و أنّ الإستثناء الواقع إقراره للسلط الأمنية و العسكرية يمسّ صراحة بحريّات دستورية مضمونة ألا وهي حرمة الحياة الخاصة وسرية المراسلات والاتصالات و حرمة المعطيات الشخصية.
و حيث إنّ تكريس هذا الإستثناء في غياب الضمانات و الضوابط القضائية يؤول إلى الإنقلاب على جوهر الحريات و يفرغها من مضامينها و يحدّ من مداها لما يسنده من سلطة تقديرية مطلقة للسلط الإدارية في إمكانية هتك تلك الحريات بمعزل عن توفّر شروط الضرورة و التناسب و التعليل و هي كلّها ضمانات لا يمكن تكريسها طبقا للدستور إلاّ بإخضاع كلّ ذلك للرقابة المسبقة للقضاء.
و بالتالي فإنّ تأهيل السلط الإدارية على هذا
النحو يُخشى منه التعدّي على الحريات الدستورية المتعلقة بالمعطيات الشخصية و سرية
المراسلات و الإتصالات و الحياة الخاصّة نظرا لعدم إقرار ضوابط دُنيا تضمن مراقبة
القضاء لتوفّر شروط الضرورة و التناسب و التعليل, و هو ما يجعل الأمر عــدد
4773 لسنة 2014 منطويا على خرق صريح لضوابط الحقوق و الضمانات الدستورية مناط
الفصلين 24 و 49 من الدستور و تعيّن تباعا اِعتباره خارقا للدستور من هاته الناحية
3) في عدم دستورية المساواة بين القوة
الإلزامية لـ"تعليمات" السلط القضائية و السلط الإدارية
نصّ الفصل 11 من الأمر عــدد 4773 لسنة 2014 على
ما يلي : " يلتزم مزود خدمات الأنترنات بـ :
المطّة 4 ـ " تمكين السلط المختصة من الوسائل الضرورية لإنجاز
مهامها ويتعين في هذا السياق على مزود الخدمة الإذعان لتعليمات السلط القضائية
والعسكرية والأمنية."
يُعتبر إلزام مزوّد خدمة الأنترنات بالإذعان لـ "تعليمات" السلط القضائية و العسكرية و الأمنيّة في غير طريقه قانونا للأسباب التالية :
- أوّلها
أنّ السلطة القضائية بجميع أجهزتها لا تصدر تعليمات للذوات المعنويّة أو
الشركات الخاصّة و إنّما تصدر أحكاما أو أذونا قضائيّة أو قرارات فورية أو أحكاما
تحضيرية أو تساخير و بالتالي فإنّ الأمر عــدد 4773 لسنة 2014 يكون
قد أتى بآليّة لممارسة العمل القضائيّ لم يأت بها المشرّع و لا تجد لها سندا
قانونيّا في المنظومة القضائية و القانونية في تونس.
- و
ثانيها أنّ المساواة التي أقرّها الفصل 11 المشار إليه بين القوّة الإلزامية
لـ"تعليمات" السلط القضائية والعسكرية والأمنية في غير طريقها ضرورة أنّ السلطة
القضائية تتمتّع بطبيعتها بجميع الصلاحيات القانونية لتوجيه الأذون و القرارات التي
تلزم المعني بالأمر بفعل شيء أو بالإمتناع عن فعل شيء في حين أنّ السلط العسكرية و
الأمنية ليست مُخوّلة قانونا لإصدار تعليمات يمكن أن تفضي إلى الحدّ من الحريات أو
الحقوق دون تفويض قانوني صريح و دون إحترام الضمانات الدستورية و خاصّة القضائية
منها.
و حيث إنّ المنطق الدستوري السليم يقتضي النّظر إلى مسألة الإذعان لتعليمات السلط العسكرية و الأمنية من زاوية الإستثناء الذّي يجب تحديد مداه مدّة و موضوعا صلب نصّ قانوني صريح أو أن يقع ربط إلزامية هاته التعليمات برقابة دنيا للقضاء من خلال التحصيل على إذن قضائي في الغرض.
و عليه فإنّه في غياب تحديد واضح للحالات التي
تستوجب إذعان مزود خدمات الأنترنات لتعليمات السلط الإدارية فإنّ إقرار هذا
الإستثناء يعتبر تعسّفيّا و مُشطّا و منطويا على اِعتداء صريح على الصلاحيات
الدستورية للسلطة القضائية في إصدار الأذون و الأحكام نظرا للمساواة الغير
دستورية التي أقرّها الأمر عــدد 4773 لسنة 2014 بين القوة الإلزامية
لقرارات السلط القضائية و تعليمات السلط الإدارية.